الفصل التاسع والثلاثون
الوصايا الرئيسية لعمل اللچيو ماريا الرسولي ١. لا نقترب من النفوس إلا بصحبة مريم توضع مريم أحياناً وراء الكواليس، وذلك مجاراة للكثير من الأحكام المسبقة عليها من أولئك الذين لم يقيموا لها إلا مكانة ضئيلة. إن هذه الطريقة المتبعة لجعل التعليم الكاثوليكي أكثر قبولاً قد تتفق مع المنطق البشري. لكنها لا تعكس الفكرة الإلهية. فالذين يتبعون هذه الطريقة لا يُدركون أنهم، بتجاهلهم وظيفة العذراء القديسة في سر الفداء، يكونون كمن يكرز بالدين المسيحي من غير السيد المسيح. فإن الله نفسه رتّب أن لا تكون البشارة، أو مجيء يسوع، أو إعطاؤه لذاته، أو ظهوره للعالم، إلا ومريم إلى جانبه
منذ البدء وقبل خلق العالم كانت مريم في فكر الله. لا جدال في أن الله هو أول من تكلم عن مريم، ورسم لها مصيراً فريداً من نوعه بلا جدال. فإن عظمة مريم هذه لها بداية في الماضي السحيق. لقد بدأت قبل إنشاء العالم. منذ البدء كانت فكرة مريم حاضرة في فكر الآب الأزلي، هي وفكرة الفادي، التي ستشاركه مصيره. وهكذا، ومنذ البدء، قد أجاب الله على فكر المتشككين الذين يقولون: “هل يحتاج الله إلى مساهمة مريم؟” نعم، كان الله قادراً على أن يستغني عن مريم تماماً، كما كان بإمكانه أن يستغني عن يسوع. إلا أن التدبير الذي سُرَّ بإتخاذه كان يتضمن مريم. لقد وضعها إلى جانب الفادي، منذ اللحظة التي تقرر فيها أن يكون فيها المسيح المتجسد الفادي. وإلى أبعد من ذلك فقد جعل هذا التدبير من مريم أماً للمخلص، وبالضرورة لذلك، أماً لجميع المتحدين به
وهكذا، منذ الأزل، رُفعت مريم إلى درجة فريدة بين الخلائق، فتقدمت حتى على أجودها وأكملها تقدماً لا مثيل له، فكانت مختلفة في الفكر الإلهي، ومختلفة في التحضير التي حصلت عليه؛ فحققت بتفرّد عن سائر الخلائق النبوءة الأولى للفداء، عندما خاطب الله الشيطان قائلاً:“وأَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه.” (تك٣ :١٥) وفي هذه العبارة لخّص الله نفسه مستقبل الخلاص. وبدون أدنى شك، ستكون مريم في تكوينها، حتى قبل مولدها، وبعده دائماً، عدوّة للشيطان؛ أقل مرتبة من المخلص، لكن تالية له، وشبيهة به (تك٢: ١٨)، وبعيدة عن كل الآخرين. فليس من نبي- ولا حتى المعمدان نفسه - ولا ملك، ولا زعيم، ولا رسول، ولا إنجيلي – بما فيهم بطرس وبولس أنفسهم - ولا أعاظم البابوات والرعاة والمعلمين؛ ولا أحد من القديسين، ولا داوود، ولا سليمان، ولا موسى، ولا إبراهيم، يضاهي مريم في إشتراكها في عمل الفداء. مريم وحدها، بين جميع الخلائق التى كانت أو ستكون، قد إصطُفِيت إلهياً كشريكة في عمل الفداء
كشفت عنها نبوءات شديدة الوضوح لا يشوبها إلتباس. وتعاقبت النبوءات مملؤة بالإشارات: “العذراء”؛ “العذراء وإبنها”؛ “المرأة،”؛ “المرأة وإبنها”؛الملكة الجالسة عن يمين الملك”؛ والتأكيد المتكرر والمتواصل بأن إمرأة ستكون عنصراً أولياً لخلاصنا. فما هو هذا المستقبل الذي تُشير إليه هذه الأقوال بشأنها؟ أليس كل ما يمكن أن يقال فيها من الأقوال السامية هو نتيجة منطقية للنبوءات؟ من الصعب علينا أن نُدرك كم هو ساحق وحاسم تحمّل هذه النبوءات عن تحديد مقام مريم في الديانة المسيحية. فالنبوءة هي ظل لحدث مُقبِل، هي نظرة تخترق الزمان بدلاً من الفراغ، هي ملامح باهتة لتوقّع بعيد. من الضروري أن تكون النبوءة أقل حيوية، وأقل وضوحاً، وأقل واقعية من الحقيقة التي تتكلم عنها. ولكن من الضروري أيضاً أن تحتفظ النبوءة بتناسق يتناغم مع تلك الحقيقة. إن النبوءة التي تصوّر لنا الفداء المُقبِل كعمل مشترك بين إمرأة وإبنها دون سواهما يسحقان رأس الشيطان، لا تتفق قطعيّاً مع عمل فداء واقعى يستبعد المرأة إلى الظلمة والنسيان. وهكذا، إذا كانت النبوءة نبوءة حقاً، وإذا كان الخلاص هو العمل الأبدي لتجسد وموت يسوع المسيح في نسيج النفس البشرية (كما تُعلنه الكتب المقدسة والكنيسة المقدسة معاً)؛ ففي النظام المسيحي يجب أن تتواجد مريم مع يسوع، غير منفصلة عنه في عمله الخلاصي؛ حواء الجديدة؛ معتمدة عليه وضروريّة له - وحقاً لا يوجد مثل لقب الوسيطة لجميع النعم، كما تصفها الكنيسة الكاثوليكية، لتلخص مكانتها الكريمة. فإذا كان ما ألمحت إليه النبوءة هو بالحقيقة مدينة الله، فالذين يقللون من شأن مريم ليسوا إلا غرباء عن هذه المدينة
ومثلها، فإن البشارة تُظهر مكانتها الجوهرية. ها قد وصلت قمة النبوءات؛ وثمرة مصير مريم الأزلي قد أصبحت الآن في متناول اليد
تأمل في التنفيذ المملوء جلالاً لتدبير الله الرحيم. وكن حاضراً بالروح لأعظم مؤتمر سلام أُقيم أبداً. إنه مؤتمر للسلام بين الله والجنس البشري، والذي يُدعى “البشارة”. يُمثّل الله في هذا المؤتمر أحد رؤساء ملائكته، والجنس البشري تُمثله تلك، التي نالت منظمتنا شرف حمل إسمها. لم تكن سوى فتاة وديعة، ومع ذلك كان مصير الجنس البشري متعلقاً بها في ذلك اليوم. جاء الملاك حاملاً إليها الأخبار الرائعة. عرض عليها التجسد. فلم يأت لمجرد إحاطتها علماً. فحريتها في الإختيار لم تُنتهك؛ لذلك فإن مصير الأسرة البشرية بكاملها تأرجح على كفة الميزان لبعض الوقت. فالفداء كان رغبة الله الحارة. لكنه في هذا الأمر، كما في سائر الأمور الأقل شأناً، لم يشأ الله أن يتعدّى على إرادة الإنسان الحرة. فهو يعرض نعماً لا تُقَدّر بثمن، ولكن على الإنسان أن يقبلها، والإنسان كان حراً في أن يرفضها. فلقد وصل الزمان الذي إنتظرته الأجيال السابقة، والذي تتوجه إليه أنظار الأجيال اللاحقة. كانت تلك اللحظات هي أزمة الدهور. وعمّ السكون. فالفتاة لم توافق للوهلة الأولى؛ بل سألت سؤالاً، فنالت جواباً. وعمّ سكون آخر، ثم تفوّهت بهذه الكلمات: “فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ” (لو١: ٣٨)، هذه الكلمات التي أَنزَلت الله إلى الأرض، ووَقعَت معاهدة السلام الكبرى بين الله والبشرية
جعل الله الآب الفداء متعلقاً بها. ما أقل من يُدرِكون أن كل ما يلي ذلك هو متوقف على قبول مريم هذا. حتى الكاثوليك أنفسهم، وبصورة خاصة، لا يُدرِكون أهمية الدور الذي لعبته مريم العذراء. يقول معلمو الكنيسة في هذا الشأن: لنفترض أن هذه العذراء قد رفضت عرض الأمومة الذي عُرض عليها، لما إتخذ الأقنوم الإلهي الثاني جسداً في داخلها. يا له من أمر مهيب! “يا لها من فكرة مُخيفة أن الله قد جعل مجيء المخلص متعلقاً بعبارة “فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ” (لو١: ٣٨)، التي فاهت بها عذراء الناصرة؛ هذه العبارة هي نهاية العهد القديم، وبداية للعهد الجديد، وتحقيق كل النبوءات، ونقطة تَحوّل كل الأزمنة، والومضة الأولى لنجمة الصبح المُبَشِرة بشروق شمس العدل، التي هى أقصى ما كانت تستطيع الإرادة البشرية تحقيقه، وتعيد ربط العلاقة التي أنزلت السماء إلى الأرض، ورفعت البشرية عالياً إلى الله!” (هتنجر Hettinger) يا له من أمر عظيم حقاً! وذاك يعني أنها كانت رجاء الجنس البشري الوحيد. ولكن مصير البشر كان في مأمن في يديها. فقد نطقت بعبارة الرضى تلك، والتي رغم أننا لن نستطيع أبداً فهمها بالكامل، إلا أن المنطق يُخبرنا أن ذلك كان أعظم فعل بطولي تم في العالم – إلى حدّ أنه على مرّ كل العصور لم يكن بإمكان أي خليقة أخرى أن تقوم به إلا هي وحدها. وحينئذ جاء إليها المخلص؛ ليس لها وحدها، بل بواسطتها إلى البشرية الفقيرة والمسكينة، والتي أجابت مريم بالنيابة عنها. مع المخلص حملت مريم إلينا كل ما يعنيه الإيمان، والإيمان هو حياة البشر الحقيقية. لا شيء غيره يهّم. في سبيله يجب أن يُترك كل شيء. للحصول عليه تُبذل جميع التضحيات. هو الشيء الوحيد الذي يستحق الإعتبار في العالم. ولهذا لنأخذ بعين الإعتبار إيمان جميع الأجيال: الماضية والحاضرة، والملايين العديدة الآتية: إيمان هؤلاء جميعاً كان يعتمد على كلمات تلك العذراء
لا مسيحية حقيقية بدون مريم. مُقابل تلك العطية التي لا تُقَدَر بثمن، يجب على جميع الأجيال من الآن فصاعداً أن تدعو تلك العذراء بالطوباوية. فلا يمكن إنكار مقام تلك التي جاءت بالمسيحية إلى العالم فى العبادة المسيحية. ولكن ماذا بشأن أناس كثيرين يُنقِصِون من قدرها، أو يُقلِلون من حقها، أو يُقومون بأسوأ من ذلك أيضاً؟ ألا يخطر على بالهم أبداً أن يفكروا، في أن كل ما نالوه من النِعَم هو بفضلها؟ ألا يدركون أنها لو إستثنتهم من كلمات قبولها في ليلة البشارة، لما أتاهم الفداء إلى الأرض؟ وإنطلاقاً من هذا الإحتمال، فإنهم يبقون خارج دائرة هذا الفداء. وبعبارة أخرى، لن يكونوا مسيحيين أبداً، حتى ولو صرخوا طوال اليوم وكل يوم: “يا رب! يا رب!” (متى٧: ٢١). أما إذا كانوا مسيحيين حقاً، وقد نالوا موهبة الحياة، فما ذلك إلا بفضل مريم التي إكتسبتها لهم، لأنها شملتهم في قبولها. وقصارى القول، أن المعمودية التي تجعل الإنسان إبناً لله، تجعله في الوقت ذاته إبناً لمريم.
فالإقرار بالجميل لمريم، إقرار حقيقي، يجب أن يكون العلامة المُمَيِزة لكل مسيحي. فالفداء هو هدية الآب ومريم المشتركة. ولذلك مع آيات الشكر التي نرفعها إلى الله يجب أن نوجّه كلمات شكر لمريم أيضاً
نجدُ الإبن دائماً مُلازِماً لأمه. لقد كانت مشيئة الله ألاّ يُفتتح مُلك النعمة بدون مريم. وكانت سعادته أيضاً في أن تستمر الأمور على هذا النحو الفريد. وعندما أراد أن يُعَدّ القديس يوحنا المعمدان لرسالته وهى أن يهييء الطريق أمامه، قدَّسَه بزيارة المحبة التي قامت بها مريم لنسيبتها أليصابات. أما فى ليلة الميلاد الأولى، فالذين أغلقوا أبوابهم في وجه العذراء كانوا يغلقونها في وجه يسوع نفسه. ولم يُدرِكوا أنهم برفضها كانوا يرفضون أيضاً المسيح الذي كانوا ينتظرونه. ولما وجد الرعاة، ممثلو الشعب المختار، الموعود به لجميع الأمم، وجدوه معها. ولو تَحوّلوا عنها، لَمَا عثروا عليه. وفي يوم ظهور الرب، قَبِل السيد المسيح شعوب العالم الوثنية الممثلة بأشخاص المجوس الثلاثة، لكنهم قد وجدوه فقط لأنهم وجدوها هي. ولو أنهم رفضوا التقرّب منها لَمَا تمكنوا من الوصول إليه
فإن ما قد تم سراً في الناصرة، كان يجب أن يُثبّت علناً في الهيكل. قدّم يسوع ذاته لله الآب، ولكن تقدمته هذه كانت بين ذراعى أمه وعلى يديها. لأنه كان يخص أمه، وبدونها لم يكن بالإمكان أن تصير التقدمة
ثم يعلمنا الآباء أن مخلصنا لم يبدأ حياته العلنية بدون موافقة أمه. وكذلك، فإن الطلب الذي وجهته إليه في عرس قانا الجليل، كان بداية الآيات والعجائب وسائر أفعال القدرة التي برهن بها على رسالته الإلهية.
رجل برجل: إمرأة بإمرأة: شجرة بشجرة. عندما جاء المشهد الأخير على جبل الجلجثة لينهى مسلسل الفداء الرهيب، كان يسوع معلقاً على شجرة الصليب، وكانت مريم تحت تلك الشجرة، لا لأنها مجرد أم مشغوفة بولدها، ولا لأنها كانت هناك بمحض الصدفة، بل لأن حضورها هذا يشبه تماماً، وبنفس القوة، حضورها عند التجسد. فهي هناك مُمَثلة عن الجنس البشري كله، ومُصَدِقة على تقدمتها لإبنها لأجل جميع الناس. لأن يسوع لم يُقدم ذاته لأبيه بدون رضاها، وهذه التقدمة كانت بالنيابة عن جميع أبنائها؛ فالصليب كان تضحيتهم جميعاً وتضحية يسوع أيضاً. قال البابا بندكتس الخامس عشر: “كما أن العذراء قد تألمت حقاً وكادت أن تموت مع إبنها المتألم، كذلك قد تجردت لأجل خلاصنا من حقوقها الوالدية على إبنها، وقدمته ذبيحة، على قدر ما كان في سلطانها لتسترضي عدل الله. لذلك فإن الحق يُقال بأنها مع المسيح قد إفتدت الجنس البشري
يعمل الروح القدس دائماً بمساعدة مريم. تعالوا نتأمل أكثر في عيد العنصرة، تلك المناسبة الهائلة حيث إنطلقت فيه الكنيسة إلى رسالتها. مريم كانت هناك. وبقوة صلاتها حلّ الروح القدس على جسد المسيح السريّ، وجعلته يُقيم فيه بكل “العَظَمَةُ والجَبَروتُ والجَلالُ والبَهاءُ والمَهابة.” (١ أخ٢٩: ١١) كانت مريم حينئذ تُقدم لجسده السريّ كل خدمة كانت قد قدمتها لجسده الفعلي. فهذه القاعدة تنطبق على العنصرة، فهي نوع من الظهور الإلهى الجديد. فهي ضرورية للجسد السريّ تماماً كما كانت ضرورية للجسد الطبيعي. وهكذا سيكون الحال في كل الأمور الإلهية حتى آخر الأزمان: إن وُضِعْت مريم خارجاً، فلن يتحقق مخطط الله تعالى، مهما كانت الصلوات والأعمال والجهود التي قد نقوم بها. فلن نحصل على النعمة ما لم تكن مريم موجودة. فيا لهول هذه الفكرة. إنها تثير التساؤل: “هل الذين يجهلون مريم، أو يهينونها لا ينالون نعماً؟” بالطبع لا، لأن فشلهم فى الإعتراف بمريم قد يجد العذر فى جهلهم التام. ولكن ما أقل ما يكون نصيبهم في السماء! ويالها من طريقة سيئة لمعاملة الأم التي تساعدنا! بالإضافة إلى ذلك، فإن تلك النعم التي تأتي في مثل هذه الأحوال، ليست سوى قطرات مما كان يجب أن يتدفّق، بحيث أن عمل حياة الإنسان يأتي ناقصاً في جزئه الأكبر.
ما هو المقام الواجب إعطائه لمريم؟ قد يخاف بعض الناس، فيقولون إنه لإزدراء لله أن تُعطى كل هذه القدرة الشاملة لخليقة محضة. ولكن إذا كان الله قد سُر بأن يُدبّر الأمور على هذا النحو، فأية إهانة في ذلك لجلاله؟ أليس من الحماقة أن نزعم أن قانون الجاذبية مثلاً يحط من قدر الله؟ فإن هذا القانون هو من الله نفسه، ويخدم إرادته في نظام الطبيعة كلها. فلماذا يُفكّر بعضهم إذاَ، أنه لا يليق لمريم مثل هذا السلطان في عالم النعمة؟ فإذا كانت قوانين الطبيعة تُظهر دائماً قدرة الله الذي أبدعها، فلماذا لا تكون القوانين التي أرادها الله لمريم مَظهَراً من مظاهر صلاحه وقدرته الكلية؟
وحتى لو سلمنا بضرورة الإقرار بفضل مريم، يبقى علينا أن نعرف مقداره وكيفية التعبير عنه. يقول بعضهم: “كيف يجب أن أوزّع صلواتي بين مريم والأقانيم الإلهية الثلاثة، وسائر القديسين؟ ما هو المقدار الصحيح، بحيث لا يكون كثيراً أو قليلاً، الذي يجب أن أقدمه لها؟” ويتمادى الآخرون في إعتراضهم قائلين: “أفلا إبتعد عن الله عندما أوجّه صلواتي إلى مريم؟”
إن هذا الشك على مختلف درجاته ينتج عن تطبيق الأفكار الأرضية على الأمور الإلهية. فيفكر بعض الأشخاص فى الآب والإبن والروح القدس، ومريم وسائر القديسين، كما لو كانوا تماثيل متعددة، بحيث إنهم إذا توجّهوا إلى أحدها إبتعدوا عن الآخرين. كثيرة هي الأمثال التي تُساعد على فهم الوضع الصحيح. ومع ذلك، فمن الغريب قوله، إن الحل الأبسط لتلك الصعوبات كلها، وأكثرها قداسة هو في إتباع النصيحة التالية:“يجب عليك حقاً أن تُعطي كل شيء لله، ولكن أعطي كل شيء مع مريم.” فيتبين أن هذا الإكرام الشديد الواضح للعيان، هو خالٍ من الإرتبا الذي يجلبه وضع المقاييس والإعتدال
يجب أن تكون أعمالنا كلها إقراراً بقبول تفويض مريم. إن تبرير هذا المسلك يُوجَد في البشارة نفسها. ففي تلك اللحظة كان البشر كلهم متحدين بممثلتهم مريم. فكلامها كان يتضمن كلامهم، وبطريقة ما كانت تحتويهم جميعاً في ذاتها. كان الله يراهم من خلالها. أما الآن فما حياة المسيحي اليومية إلا تنشئة ربنا يسوع المسيح في ذلك العضو من جسده السري. وهذه التنشئة لا تُجري بدون مريم. إنه تدفق للتجسد الأصلى وجزء منه، لذلك فإن العذراء القديسة هى بالحقيقة أم لكل مسيحي كما كانت أم المسيح نفسه. رضاها وعنايتها الوالدية ضروريان للنمو اليومي للمسيح في كل نفس، كما كانا ضروريين لتكوين ونمو الجسد البشري عند إبنها الإلهي. فعلى أى شىء ينطوى ذلك بالنسبة للمسيحي؟ إنه ينطوى على واجبات عديدة مهمة، ومنها الواجب التالي: أن يعترف بكل إقتناع ومعرفة تنبع من صميم القلب، أن مريم تمثله في تقدمة الذبيحة التي بدأت في التجسد، وتمت على الصليب، والتي إكتسبت لنا الفداء. عليه أن يقرّ بكل ما فعلته حينئذ بإسمه ليستطيع أن يتمتع، بلا لوم، بكامل الخيرات غير المتناهية التي وهبه إياها المسيح. وكيف تكون طبيعة ذلك الإقرار؟ أيكفي فعلاً مكرراً مرة واحدة؟ علينا أن نجد الجواب تحت ضوء الحقيقة أن كل أفعال حياتنا أصبحت، بفضل مريم، أفعالاً مسيحية. أليس من الصواب واللياقة إذاً، أن نقدم أفعالنا كلها بعاطفة الشكر والإقرار بالجميل؟ فيأتي الجواب نفسه الذي أشرنا إليه سابقاً: “عليك أن تعطيها كل شيء.”
مجّدوا الرب مع مريم. لتكن مريم حاضرة في ذهنكم في كل الأوقات، ولو على الأقل، بصورة ضمنية. ضمّوا نياتكم إلى نياتها، ورغباتكم إلى رغباتها، بحيث تكون أعمالكم وصلواتكم اليومية كلها مُتمَمَة معها. لا تستثنوها من أي شيء. وسواء وجهتم صلواتكم إلى الله الآب أو الإبن أو الروح القدس، أو إلى أحد القديسين، فلتكن صلواتكم دائماً متحدة بمريم. فهي تردد الكلمات معكم. شفتاها وشفاهكم سيشكلان الكلمات معاً، ويكون لها نصيب في كل شيء. على هذا النحو لا تكون إلى جانبكم فقط، بل تكون، كما كانت دائماً، فيكم وبداخلكم؛ فتكون حياتكم وحياتها واحدة تعطي الله ما هو لكما معاً.
إن هذا الإكرام لمريم الذي يعانق أفعالنا كلها، هو إقرار رائع بالدور الذي لعبته وما زالت تلعبه مريم يومياً في عمل خلاصنا. علاوة على ذلك، هو أسهل إكرام لها. لأنه يُزيل شكوك الذين يسألون أنفسهم: “إلى أي حد يمكن أن يذهب إكرامهم للعذراء القديسة؟” أو أولئك الذين يخشون أن يُقَصّروا بحق الله إذا ما أعطوها جزءاً من صلاتهم ووقتهم. ومع ذلك فإن بين الكاثوليك من يقول: “إن في ذلك مبالغة كبيرة.” ولكن، ما الذي يخالف الصواب في ما قلناه؟ وأي شيء في هذا الإكرام يتبرأ من الواجب تجاه الله القدير؟ أمّا هذا النقص في إكرام الله، فيجب أن يُنسب إلى الذين، مع كونهم يُعلنون غيرتهم على مجده تعالى، إلا أنهم لا يخضعون للترتيب الذي أقامه؛ فهم يؤكدون على أنهم يعتبرون الكتاب المقدس كلمة الله المقدسة، إلا أنهم لا يسمعون الآيات التي تتغنى بالعظائم التي صنعها الله لمريم، وكيف ستطوبها جميع الأجيال. (لو١: ٤٨-٤٩
من الأفضل أن يتمّ التحدث إلى هذه النفوس المتشككة جميعاً بكلمات تحمل هذا الإكرام الغني الكامل. فكيف يمكن لأعضاء اﻠﻠﭽيو ماريا أن يتكلموا عن العذراء القديسة بغير هذا النحو؟ فالتقليل والإختصار في الكلام يجعلان منها أمراً غامضاً. فلو كانت مريم خيالاً أو فكرة عاطفية، لكان من السهل تبرير موقف أولئك الذين يعاملونها بسطحية لا الكاثوليك. من جهة أخرى، فإن التصريح بحقوقها كاملة وبمكانتها الأساسية في حياة المسيحي، هو تَحدًّ لا يمكن تجاهله من أي قلب سادت فيه النعمة. فالفحص الهادئ عن دور مريم ومهمتها، لا بد من أن يأتي بهم إلى قدميها
إن غاية اﻠﻠﭽيو ماريا هي أن تكون مرآة تعكس صورة مريم. فإذا كانت أمينة على هذا الهدف الأسمى، صارت شريكة لها في نعمة سلطانها السامي بأن تُنير قلوب الذين هم في ظلام عدم الإيمان
“للقديس ألبرتوس الكبير، معلم القديس توما الإكويني، كلمات رائعة في تفسيره لصفحة الإنجيل التي تتكلم عن البشارة؛ يقول أن إبن مريم يعطي أمه ميزات صفة اللامحدودية، تماماً كما أن هناك جودة غير محدودة موجودة فى الشجرة التى تُعطى الثمرة وهى تأتي بشكل تام من الثمرة نفسها
وبالفعل، فإن الكنيسة الكاثوليكية تَعتبِر أم الله ذات سلطان لا حد له في مجال النعمة. وتُعْتبر مريم أماً للمفتدين جميعاً بسبب شمولية نعمتها هذه. فمريم، بفضل أمومتها الإلهية، هي أوسع قدرة فائقة الطبيعة، وأفعلها، وأشملها للنفوس، في السماء كذلك على الأرض، بعد الثالوث الأقدس
(فونيه Vonier: الأمومة الإلهية) ٢. يجب أن نجود على النفوس الغالية الثمن بالصبر والوداعة اللامتناهيين
يجب أن تخلو الرسالة المريمية من لهجة الشدة. فإن الصفات الجوهرية والضرورية للنجاح، خاصة مع الخطأة والمنبوذين والمتشردين، هي التعاطف واللطف الدائم الذي لا يتبدَل. كثيراً ما نقنع أنفسنا خصوصاً في أمور الحياة، بأن هناك حالات في المجتمع تستوجب التأنيب أو الكلمة الحادة، فنتفوه بها، ثم سرعان ما نندم عليها. ولعل الخطأ قد وقع في كل قضية قمنا بها. فلماذا لا نتذكر في الوقت المناسب أن المعاملة القاسية، التي كانت بدون شك عن إستحقاق، هي التي غذت الخشونة وسوء الطبع اللذين نشتكي من تناميهما؟ فإن الزهرة التي كانت ستتفتح تحت تأثير دفء النعومة اللطيف والرحمة، تنغلق تماماً بفعل الريح البارد. ومن جهة أخرى، فإن نسمة التعاطف التي يحملها معه عضو اﻠﻠﭽيو ماريا الصالح، والرغبة التي يُظهرها في الإصغاء ليدخل بكل قلبه في ما يُعرض عليه من مشاكل، لها تأثير لا يُقاوَم. وهكذا فإن أشد الناس قساوة وتصلباً، يكتسب في خمس دقائق ما لم يكتسبه خلال سنة كاملة من التوبيخات وسوء المعاملة
إن هذه الأصناف الصعبة من الناس يقفون على حافة الغضب الشديد. فالذي يواصل مضايقتهم يدفعهم إلى الخطيئة، ويزيد مقاومتهم تصلباً. أما الذي يشاء مساعدتهم فيجب عليه أن يسير بهم في الإتجاه المعاكِس. ولا يُمْكِنه فعل ذلك إلا إذا عاملهم برفق وإحترام بالغين.
فلتنطبع في قلب كل عضو الأقوال التالية التي تُطبّقها الكنيسة على سيدتنا مريم العذراء المباركة: “فإِنَّ ذِكْري أَحْلى مِنَ العَسَل وميراثي أَلَذُّ مِن شَهْدِ العَسَل.” (سي ٢٤ : ٢٠). وقد يفعل الآخرون خيراً بإعتمادهم على الأساليب القاسية، أما بالنسبة لعضو اﻠﻠﭽيو ماريا فأمامه طريق واحد لإنجاز عمل الرب، وهو طريق اللطف والوداعة. فلا يحيد عن هذا الطريق تحت أي ظرف من الظروف. فإذا فعل، فلن يجني الخير؛ بل إن عمله سيكون مؤذياً. فأعضاء اﻠﻠﭽيو ماريا بخروجهم عن حدود ملكوت مريم الخاص، يفقدون كل إتصال بها، تلك التي يتعلق بها عملهم. فأي خير يطمحون أن يُحققوا؟
إن أول فرقة مريمية كانت قد أُعطيت إسم فرقة سيدة الرحمة. لأن العمل الأول الذي قامت به المنظمة كان زيارة مستشفى تُديره راهبات الرحمة. وقد ظن الأعضاء في ذلك الوقت أنهم هم الذين إختاروا هذا الإسم، ولكن ليس هناك شك في أن العذراء الوديعة هي التي أعطتهم إياه بنفسها، مُبينة لهم الصفة التي يجب أن تُميز روح اﻠﻠﭽيو ماريا.
من عادة اﻠﻠﭽيو ماريا ألاّ تتراخى في ملاحقة الخاطئ. فقد تُلاحق هؤلاء الناس، المُصرّين على خطيئتهم، سنين طويلة من التعب الذي لا يعرف الراحة. كثيراً ما يحدث أن يصادفوا أشخاصاً يمتحنون إيمانهم ورجاءهم ومحبتهم. أشخاصاً يبدون أنهم لا يدخلون في فئة الخاطئين العاديين؛ لأنهم على جانب عظيم من الشر ومن الأنانية المتأصلة، ومن الخبث الشديد، يبغضون الله بكل قوتهم، ويقفون من الدين موقفاً مقززاً للنفس. يظهرون وكأن ليس فيهم أية عاطفة صالحة، ولا أية شرارة نعمة، ولا أي أثر فيهم لأي شيء روحي. إنهم كريهين تماماً إلى حد يصعب معه التصديق بأن الله نفسه لا ينفر منهم. فما الذى يمكن أن يراه الله في هذا التشوه المرعب جداً، مما يجعله يشتهي الإتحاد الحميم بهم في التناول المقدس، أو صحبتهم في الفردوس؟
فالتجربة الطبيعية التي قد تتملكنا، في التخلي عن مثل هذه النفوس هي حقيقة لا تُقاوَم. ومع ذلك، على عضو اﻠﻠﭽيو ماريا ألا ينقاد لهذه التجربة. لأن تلك التعليلات البشرية هي كلها خاطئة. لأن الله يريد حقاً تلك النفوس الشريرة البشعة؛ ويريدها بحرارة وإلى حد إنه أرسل إبنه، ربنا يسوع الحبيب، إلى هذه النفوس، وهو الآن معها!
فهنا يكمن دافع المثابرة الذي عبّر عنه المطران بنسنR.H. Benson بطريقة رائعة حين قال: “لو كان الخاطئ يكتفي بطرد السيد المسيح بخطيئته، لكان بإمكاننا أن نهمله. ولكن بما أن النفس الخاطئة الشريرة تمسك بالمسيح – بحسب تعبير القديس بولس المخيف – وتصلبه ثانية وتمضي في إهانته (عب ٦:٦)، لذلك لا يمكننا أن نتركها وشأنها
يا لها من فكرة تقشعرّ لها الأبدان! المسيح ملكنا في قبضة العدو! إن ذلك دعوة لجهاد يدوم مدى الحياة، ولإشعال أعنف قتال شن في التاريخ، ولملاحقة تلك النفس بلا هوادة، إذ يجب هدايتها لوضع حد لعذاب المسيح! فكل ما هو طبيعي يجب أن يُحرق بلهب فعل الإيمان، ذلك الإيمان الذي يجعلنا نرى ونحب المسيح ونقف بجانبه، هو المصلوب في ذلك الخاطئ. كما أن أصلب فولاذ يذوب تحت وطأة ألسنة نيران موقد اللحام، هكذا تلين أقسى القلوب تحت تأثير لهيب المحبة الذي لا يُقهَر
سُئل يوماً أحد أعضاء اﻠﻠﭽيو ماريا من ذوي الخبرة الواسعة في شؤون الخطأة الأكثر إنحطاطاً في مدينة كبيرة، عما إذا كان قد صادف خطأة لا أمل فيهم إطلاقاً. فمن حيث إنه كعضو ﻠﻠﭽيو ماريا، يكره الإعتقاد بوجود مثل هذه الفئة، أجاب إن كثيرين كانت حالتهم فظيعة وقليلين الذين لا أمل فيهم. ولما أُلِحّ عليه أن يُوضِح كلامه، أقرّ بأنه لم يعرف إلا شخص واحد يمكن أن تنطبق عليه هذه الصفات
في المساء ذاته تلقى تأنيبه الساحق. فقد صادف في الشارع الشخص الذي تحدث عنه. فتحدث إليه مدة ثلاث دقائق، حدثت بعدها معجزة إهتداء ذلك الخاطئ إهتداءً تاماً وثابتاً!
“إن في سيرة القديسة مادلين صوفي (مؤسسة راهبات القلب الأقدس) حادثة تظهر فيها الثبات في ملاحقة إحدى النفوس بكل ما فيها من أحداث مثيرة. فإن هذه القديسة قد تعلقت مدة ثلاث وعشرين سنة بمحبة نفس وضعتها العناية الإلهية في طريقها. وكانت نعجة ضالة. ولولا القديسة لما وجدت تلك النفس حظيرتها. وما من أحد عرف من أين أتت جوليا (وهو إسم هذه الفتاة)، لأنها لم ترو قصتها مرتين متشابهتين، بل كانت تبدلها في كل مرة. عاشت منفردة وفقيرة. وكانت ذات طبع صعب ومتقلب. وقيل إن لا نظير لها في الحياة العادية. وأيضاً إنها خدّاعة؛ خائنة؛ دنيئة؛ حادة الخُلق. إلا أن القديسة ما رأت فيها إلا نفساً فقط، وجدها الرب، الراعي الصالح في أماكن خطرة فوكلها إلى عنايتها. فتبنتها وعاملتها كإبنة لها، وكتبت إليها ما يزيد عن مائتي رسالة، وتألمت كثيراً من أجلها. فكافأتها تلك الفتاة بالإفتراءات ونكران الجميل، فصمدت القديسة وسامحتها مرات ومرات ولم تقطع الأمل... وبعد وفاة القديسة بسبع سنوات ماتت جوليا في سلام مع الله
(موناهان Monahan: سيرة القديسة مادلين صوفي بارا) ٣. شجاعة عضو اﻠﻠﭽيو ماريا كل مهنة تقتضي من أعضائها شجاعة من نوع خاص، ومَن يخلو منها يكون غير مؤهل لممارستها. والشجاعة التي تطلبها اﻠﻠﭽيو ماريا من أعضائها هي الشجاعة الأدبية. فإن عمل عضو اﻠﻠﭽيو ماريا كله تقريباً يتألف من التقرّب إلى النفوس ليقرّبها إلى الله. في بعض الأحيان، قد يستاء البعض من هذا التصرف أو يسيئون فهمه، ويظهرون هذا الإستياء بطرق مختلفة، أقل فتكاً من صواريخ الحرب، إلا أن الخبرة تثبت أنه لا يتم مواجهتها. فمن بين ألوف الرجال الشجعان الذين يمكنهم مواجهة الرصاص والقنابل، من الصعب إيجاد واحد منهم لا يمتعض من مجرد فكرة تعرضه للقليل من السخرية أو لكلمات الغضب، أو الإنتقاد، أو نظرات الإستهزاء، أو الخوف من الظهور بمظهر من يعظ الآخرين أو يتصنّع القداسة أمامهم.
“بماذا سيفكرون؟ ماذا سيقولون؟” تلك هى مخاوفه الداخلية، بدلاً من ذلك، يجب أن يكون تفكيره كالرسل، فيفرح لأنه وُجِدَ أهلاً لأن يتحمّل الإهانة من أجل إسم يسوع. رسل٥: ٤١
فإذا تٌرك المجال للحياء، والذي يسمونه أحياناً الإحترام البشري، أن يتقدم بحرية، فإن كل عمل من أجل النفوس سوف يتضاءل إلى حد التفاهة. فلننظر حولنا ونشاهد مأساة نتاج ذلك. فالمؤمنون يعيشون في كل مكان بين جماهير غفيرة من غير المؤمنين، ومن غير الكاثوليك، ومن المسيحيين غير الممارسين. إن خمسة بالمئة من هؤلاء يمكن إكتسابهم بأول جهد يبذل لعرض التعاليم الكاثوليكية عليهم فردياً. وهؤلاء الخمسة بالمئة سيكونون الأداة التي تفتح قلوب جماهير عديدة وتهديها إلى الله. ولكن للأسف، هذا الجهد المبدئي لا يُبذل رغم أنهم يأملون القيام به، ومع ذلك لا يعملون شيئاً لتحقيقه. لأن قواهم على العمل مشلولة بالسم المميت والذي يدعونه الإحترام البشري. وهذا الإحترام يطلقون عليه أسماء كثيرة: “الحذر العام؛” “إحترام آراء الغير؛” “إستحالة المشروع؛” “إنتظار للقائد أو المرشد؛” إلى غير ذلك من الأعذار؛ وكلها تنتهي بالتوقف عن العمل
يُروى أن القديس غريغوريوس صاحب العجائب عندما دنى أجله، سأل عن عدد غير المؤمنين في المدينة. فأتاه الجواب سريعاً: “سبعة عشر فقط.” ففكر الأسقف المنازِع برهة وقال: “سبعة عشر؟ هو تماماً عدد المسيحيين الذين وجدتهم هنا عندما بدأت حياتي الأسقفية.” بدأ بسبعة عشر مؤمناً فقط، ولم تترك الجهود التي بذلها سوى سبعة عشر فقط من غير المؤمنين. يا للمعجزة الباهرة! إن نعمة الله لم تستنزف رغم توالي القرون. فالإيمان والشجاعة اليوم يمكن الإعتماد عليهما بحرية تامة لتحقيق معجزات شبيهة بتلك. إن الإيمان عادة لا ينقص بل الشجاعة هي التي تنقص.
فإذا كانت هذه هي الحقيقة الراهنة، فعلى اﻠﻠﭽيو ماريا أن تقود وتنظم حملة حكيمة ضد تأثير روح الإحترام البشري في أعضائها. ويكون ذلك أولاً بمقاومة الحياء بقوة النظام السليم. وثانياً بحمل الأعضاء على التفكير في الإحترام البشري كما يفكرون في الجبن. ويجب أن يُدَرَبوا على كيفية مواجهته، ويُدرِكوا أن الحب والإخلاص والنظام ليست سوى أوهام، إن لم يُنتَج عنها التضحية والشجاعة.
عضو ﻠﭽيو ماريا بلا شجاعة! ماذا يمكننا القول عنه سوى تطبيق قول القديس برنارد: “يا للعار أن تكون عضواً رقيقاً ومدللاً في جسم رأسه مُكَلَل بالشوك
“إن حاربت فقط متى شعرت بأنك مستعد للقتال، فأي فضل يكون لك؟ فماذا يهم إن لم يكن لديك الشجاعة، بشرط أنك تتصرف وكأنك شجاع حقاً؟ فإذا شعرت بأنك كسول حتى لأن تلتقط خيطاً صغيراً من الأرض، ومع ذلك إلتقطته حباً ليسوع، فثوابك أعظم بكثير مما لو عملت عملاً أعظم من ذلك بدافع الحماسة. فبدلاً من أن تحزن وتكتئب، إفرح عندما ترى يسوع الحنون، إذ يَدعَك تشعر بضعفك، فهو يُدبّر لك فرصة مؤاتية لتُخلص عدداً أكبر من النفوس
(القديسة تريزيا الطفل يسوع)
تابع قراءة الفصل تضرعي لأجلنا يا والدة الله القديسة ... لكي نستحق مواعيد المسيح