٥. ينبغي لأعضاء اﻠﻠﭽيو ماريا أن يمارسوا الإكرام الحقيقي
الذي مارسه دي مونفور نحو مريم من المطلوب أن تُتمم ممارسة عضو اﻠﻠﭽيو ماريا للإكرام المريمي، وأن تأخذ السمة المميزة التي علمها القديس لويس ماري دي مونفور، تحت عنوان “الإكرام الحقيقى” والذى تم تدوينه في كتابيه “كتاب الإكرام الحق للعذراء القديسة” و“سرّ مريم.” (راجع الملحق ٥) ويقتضي هذا الإكرام الدخول الرسمى فى عهد مع مريم، فيه يعطيها العضو ذاته كاملة، وأفكاره، وأفعاله، وخيراته كلها، الروحية والزمنية، الماضية والحاضرة والمستقبلية، من غير أن يحتفظ لنفسه ولو بشيء زهيد. وقصارى القول، إن المعطي يضع ذاته في حالة توازي حالة العبد الذي لا يملك شيئاً البتة، فهو يخضع لمريم خضوعاً تاماً، ويجعل ذاته تحت تصرّفها الكامل. أمّا العبد الأرضي فهو يتمتّع بحريّة أوسع من حريّة من يجعل نفسه عبداً لمريم. فالأول يبقى سيّد أفكاره وحياته الداخلية، وهو بذلك حرّ فيما يتعلق به مباشرة. أمّا الخضوع لمريم فيمتد إلى كل شيء: إلى كل فكر، وإلى جميع حركات النفس، وإلى الثروات الخفية، وإلى صميم كياننا أيضاً، إلى كل شيء فينا، حتى النفس الأخير، يُقدّم لمريم لتستخدمه لأجل الله. إنه نوع من الإستشهاد والتضحية بذاتنا لله مع مريم كأنها المذبح لهذه التضحية، حقاً، إن هذه الذبيحة متوافقة مع ذبيحة المسيح ذاتها، التي إبتدأت هي أيضاً في حضن مريم، وأثبتتها مريم علانية برفعها ذراعيها في تقدمة اليوم الأربعين، وإمتدت إلى جميع أوقات حياة يسوع وإنتهت على جبل الجلجثة على صليب قلب مريم. يُفتتح هذا الإكرام الحق بفعل تكريس رسمى، لكنه يتكون فى الأساس مما يتبع ذلك من الحياة بموجب هذا التكريس. فيكون إكرامنا الحق حالة وليس مجرد فعل. فإذا لم تستحوذ مريم على حياتنا بتمامها، وليس بضع دقائق فقط أو ساعات منها، فيجب القول بأن فعل التكريس هذا، مهما رُدّدَ، لن يعتبر سوى صلاة عابرة، فيشبه عندئذ شجرة تم غرسها لكن جذورها لم تتأصّل في الأرض. وهذا لا يعني أن فعل التكريس هذا يبقى حاضراً في الذهن دائماً. فكما أن التنفس ونبضات القلب التي تنظم حياة الجسد لا تلاحظ بشكل واع، هكذا الإكرام الحق، فإنه وإن لم ننتبه إليه بفعل إنتباه صريح، يعمل في حياة النفس بلا إنقطاع. ويكفينا أن نتأمل حيناً بعد آخر بخضوعنا التام لمريم لكى يظل شديد الوضوح، وذلك بواسطة التفكير المتعمق والأفعال والإبتهالات. وبشرط أن نبقى على الدوام معترفين بحقيقة إعتمادنا التام عليها، وأن يكون ذلك حاضراً في ذهننا بإستمرار ولو بطريقة غير صريحة، وأن يكون سلوكنا العام وفق إعتقادنا هذا، في جميع ظروف حياتنا. فإذا كان ذلك بحرارة، كان مفيداً لنا. وإن لم يكن ولم نشعر به، فلا يغير شيئاً من قيمة إكرامنا، بل كثيراً ما تكون نتيجة الحرارة الحسية إسترخاء التقوى وفقدان الفاعلية.
ولنلاحظ جيداً: ليس الإكرام الحق مبنياً على الحرارة أو العواطف من أي نوع كانت. فالمباني الشاهقة قد تكون معرضة للهيب الشمس الساطعة، لكن أساساتها العميقة تظل باردة مثل الصخر الذى ترتكز عليه. إن من عادة العقل أن يكون بارداً، وأفضل الحلول يمكن أن يكون بارداً كالثلج، والإيمان نفسه قد يكون بارداً كالماس. هكذا أيضاً أساسات الإكرام الحق. فبنائه علي هذه الأساسات، يضمن ثباته، لأن العواصف وهبات الصقيع القادرة على تحطيم الجبال لن تتركه إلا أكثر قوة. إن النعم التي رافقت ممارسة هذا الإكرام الحق، والمقام الذي أحرزه في حياة التكريس بالكنيسة، تدل بصدق على أنه رسالة حقيقية من السماء. هذا بالضبط ما كان يعلمه القديس لويس ماري دي مونفور. لقد ربط به وعوداً عظيمة، ويعلن بتأكيد أعظم أن هذه الوعود سوف تتحقق بتحقق الشروط المطلوبة.
أمّا فيما يتعلق بالخبرة اليومية: فإسألوا بشأنها الذين يمارسون هذا الإكرام، بما هو أكثر من ممارسة سطحية، لتروا بأي يقين بليغ يحدّثونكم عن كل ما فعله لأجلهم. اسألوهم هل هم ضحايا عاطفتهم ومخيلتهم. سيجيبونكم دائماً بأن ما نالوه من ثمار سعيدة كان مؤكداً بلا جدال وبصورة لا تحتمل الشك. فإذا كان لجملة هذه الإختبارات قيمة عند الذين يعلمون ويدركون ويمارسون هذا “الإكرام الحق”، فلا شك أنه يزيد الحياة الداخلية نمواً محسوساً، إذ يوليها سمة خاصة من السخاء ونقاء النية. فصاحب هذا الإكرام يشعر بأن وراءه من يقوده ويحميه، ويوقن بفرح أن حياته الآن قد تم إستثمارها إلى أسمى درجة، فينظر إلى الأمور من وجهتها الفائقة الطبيعة، وتترسّخ جرأته ويزداد إيمانه صلابة، مما يجعل الفرد دعامة أساسية لكل مشروع. ويكون له من الحنان والحكمة ما يحفظ قوّته في مكانها المناسب. وينمو في التواضع الوديع الذي يصون جميع الفضائل. ثم تأتيه نعم تفوق المعتاد يصعب إدراكها. وكثيراً ما يكون هناك دعوة إلى مشروع عظيم يتجاوز بوضوح قدراته ومواهبه الطبيعية، لكن هذه الدعوة تحمل معها عوناً يصير الإنسان معه قادراً على حمل هذا العبء المجيد وإن كان ثقيلاً من غير أن يرزح تحته. إن التضحية العظيمة التي يقوم بها من يمارس “الإكرام الحق”، ويسلم نفسه لهذا النوع من العبودية، يربح مقابلها المائة الضعف التي وعد بها أولئك الذين يتجرّدون من أنفسهم من أجل مجد الله الأعظم. فمتى خدمنا فنحن نملك، ومتى أعطينا فنحن نغنى، ومتى بذلنا ذواتنا فنحن الظافرون. بعض الأشخاص يبدون وكأنهم يقللون من حياتهم الروحية ببساطة شديدة وكأنها مسألة من الربح الأنانى أو الخسارة. فهم ينزعجون أمام فكرة التخلى عن كنوزهم حتى إذا وضعوها بين يدي مريم أم نفوسنا. وقد يقول بعضهم: “إذا أعطيت مريم كل شيء، أفلا أقف في ساعة إنتقالى فارغ اليدين أمام الله، وربما يطول مكوثي في المطهر؟” وعلى هذا، يجيب أحد المفسرين بجاذبية ودقة: “لا، على الإطلاق، لأن مريم تكون حاضرة تلك الدينونة”. فيا لها من فكرة عميقة. إن الإعتراض على القيام بالتكريس ليس مصدره أحد مظاهر الأنانية الواضحة، إنما يتأتى على وجه العموم عن بعض الحيرة. فهناك صعوبة فى فهم كيف أن الأشياء التى يربطنا بها واجب الصلاة؛ مثل أسرتنا وأصدقائنا، ووطننا، والحبر الأعظم ...إلخ. سوف تنجح إذا بذلنا لمريم كنوزنا الروحية كعطية غير مشروطة، فلنترك جانباً كل هذه الهواجس، ولنعلن بجرأة فعل تكريسنا، فإن كل ما في حوزة سيدتنا مريم العذراء يكون في أمان. فهي حارسة كنوز الله نفسه، وهي قادرة على صيانة مصالح كل الذين يضعون ثقتهم فيها. فلنلقِ إذاً نحن مع كل ما يخصنا فى الحياة، كل مسئولياتنا - ما لنا وما علينا - في قلبها العظيم الرائع. إنها في علاقاتها معك، تتصرّف بطريقة وكأن ليس لها إبن سواك. إن خلاصنا وتقديسنا وحاجاتنا الكثيرة جميعها حاضرة أمامها. فعندما نصلي من أجل نواياها، فنحن أنفسنا نكون أول هذه النوايا.
ليس هنا مجال، ونحن نحرص على التضحية والسخاء، لإقامة البراهين على أن هذا التكريس هو في الواقع عملية رابحة. فلو فعلنا لتحطم أساس التقدمة، وجُرّد من وسم التضحية التي يعطيها كل قدرها. ويكفينا أن نتذكر بأنه في يوم من الأيام، كان يجتمع في مكان قفر جموع بلغت عشرة أو إثني عشر ألفا وكانوا جوعى. (يو٦: ۱-۱٤) وكان بين تلك الجموع شخص واحد، قد أحضر طعام معه. كل ما يملكه ذلك الفتى هو خمسة أرغفة من الشعير وسمكتان. فطلب منه أن يتخلى عن زاده هذا في سبيل الخير العام فوافق بطيب خاطر. حينئذ بوركت الخبزات والسمكتان، ووزعت على الجماهير. فأكلت وشبعت، وشبع معها ذلك الفتى وملأت الكسر إثنتي عشرة قفة وفاضت! لو إفترضنا أن هذا الفتى قال: “ماذا يمكن لهذه الخبزات وهاتين السمكتين أن تفعل لهذا الجمع الغفير؟، ثم أنا بحاجة إليها لأسد جوع أهلي وأقاربي، فلا أستطيع أن أتخلى عنها.” لكنه لم يفعل! بل قدم الكل، فنال هو والآخرون من وجبة الطعام العجيبة أكثر مما وضعوا فيها بكثير. ولا شك أن لهم الحق في محتويات الإثنتي عشرة قفة لو أرادوا المطالبة بها. هكذا يسلك دوماً يسوع وأمه نحو النفس السخية التي تهب خيراتها من غير تحفظ ودون قيد أو شرط. فتلك التقدمة تمنح الخيرات، فتكفي لسد حاجات جمع غفير. وعلى الرغم من أن حاجات المرء ونياته قد بدت خاسرة من هذا البذل وذلك التخلي، إلا إنها قد تم تلبيتها بسخاء وظل العطاء الإلهي فائضاً لا ينضب. فلنبادر إذاً ونقدم لمريم خبزنا وسمكنا القليل، ولنلقيه بين يدي يسوع ومريم، ليتصرفا به بكل حرية ويكثراه لتغذية الألوف بل الملايين من النفوس الجائعة في صحراء هذا العالم القاحلة. إن هذا التكريس لا يقتضي تبديلاً في صلواتنا وأعمالنا العادية، فيمكن متابعة سلوك حياتنا المألوف، وأن نستمر في تلاوة الصلاة لأجل نياتنا العادية ولأجل غيرها من النيات الخاصة، غير أننا بعد التكريس، نفعل ذلك وفقاً لخاطر مريم ومسرّتها. “إن مريم تشير إلى ابنها الإلهي، وهي توجه إلينا الدعوة ذاتها التي وجهتها إلى الخدم في قانا الجليل: “مَهما قالَ لَكم فإفعَلوه.” (يو۲: ٥) فإذا ما سمعنا وصيتها وسكبنا في أواني المحبة والتضحية، ماء تفاصيل أفعالنا اليومية التي لا طعم لها، تتجدد أعجوبة قانا. فيتحول الماء إلى خمر لذيذة، أي إلى نعم ثمنية لنا ولغيرنا.”
(كوزان Cousin)
تضرعي لأجلنا يا والدة الله القديسة ... لكي نستحق مواعيد المسيح